السبت، 13 أكتوبر 2012

مدادُ مطلقْ ،، ومنطقْ !




بسم الله الرحمن الرحيم

ربّ اشرح لي صدري ويسّر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهه قولي ، واجعل لي وزيرًا من أهلي ، أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري ، كي نسبحك كثيرًا ونذكرك كثيرًا إنك يا الله بنا بصيرا
اللهم لا علم لنا إلاّ ما علمتنا ، ولا حول ولا قوّة لنا إلاّ بك ..

          قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَابمِثْلِهِ مَدَدًا ﴿الكهف: ١٠٩﴾
يحار فكري دومًا في قوله تعالى هذا ، ولا يتسع لاستيعاب تقدير "ماء الأرض" كلها الموجود بمساحة ثلاث أرباع الأرض! .. فكيف بمزيده ؟!
ربما لأنني لا أملك فصاحة ً ،بل وأكيد، لأجد كيف يمكن للإنسان أن يكتب ويُنهي حبر قلمه ، ثم يكتب ويكتب ويكتب ويكتب ! .. وتنتهي الأقلام من خلفه ، والأحبار والطبائع ، ولا ينتهي كلامه ! ... لا أعتقد ذلك ! .. خاصة أنّني قد لا استهلك في عام ٍ كامل "رغم كثرة ما أكتب وأعلق هنا وهناك" أكثر من قلميْ حبر !
في عصر عولمتنا هذا وسرعته .. مقدار الكمّ المستعمل من الأوراق والأحبار كثير ، وذلك يكلف الكثير من الأشجار والتصنيع للأحبار .. ولكن حين اخترعوا "الطابعة الليزرية" كانت إحدى مرشدات لاستهلاك الأحبار في العالم ؛ كميات منسوخة كبيرة بحجم أقل من الأحبار في الطابعات الأخرى المعتادة .
ما هو المداد ؟
يقول الزمخشري في كتابه وتفسيره الكشاف:
"المداد: اسم ما تمد به الدواة من الحبر وما يمد به السراج من السليط"
وهو قطعة صغيرة جدًا جدًا موجودة داخل القلم عند رأسه من الداخل ، تكون أداة لنقل الحبر من مكانه إلى رأسه حين الكتابة.
أنا هنا لستُ أشكك في قدرة الله سبحانه وتعالى –معاذ الله، فمن أنا؟- على المداد والكتابة وانتهاء الأبحر ماءًا ، والصخور قرطاسًا ، والأشجارَ ألوانًا ،، لكنني أحاول أن استنبط قدرة عظيمة لله عزّ وجل تجعلني أمامه أصغر وأصغر !

لكنني لا أنكر أنّ إحدى الأسباب التي جعلتني أصغرُ وأصغر هي ؛ حين تقرأ في علم التفسير .. فحين ترى من الكتب فقط في الإعجاز الحَرفي في القرآن الكريم ، فهذا كتابٌ مختص "فقط" لأدوات النفي والنهي في القرآن ومقارنة أوضاعها وصيغها ، وهذا إعجاز بلاغيّ وهو مهما كتب بها الكُتّاب والأدباء والعلماء لن ينتهوا منه ، وكتاب في إعجاز ٍ علمي ؛ في الأفاق والأنفس البشرية والحيوانية والنباتية وغيرها ..
*فائدة: الإعجاز العلمي؛ وهو مما اشتُهر بين الناس ، وحين نقول إعجازًا علميًا في القرآن الكريم فنحن هنا نعطي الأية "بعضًا" من تصوّرها واعتقادنا أنه لها ، وقد يكون المقصد لأمر ٍ آخر لذلك الإعجاز العلميّ في القرآن وذكره لا يُعد تفسيرًا إنما مجردَ اجتهاد.
وهذا كتاب إعجاز في الطب ، وفي اللغة والبيان، وفي العرض والإتقان ، ما هو متماشٍ مع كل زمان ومكان ، يسلب من العقول لُبها ، ويُثبتُ صاحب الحجة وبرهانها، يزيل عن القلب غشاوته وعن العقل حجابه ، يفتح البصائر لمن أراد ويكون للطامحين مرادًا وخيرَ زاد ، ترى فيه للدنيا وصفَهُ الأخيار والأشرار ، وصفات أهل ِ الجنة وصفات أهل النار ، لكل معنىً منه معاني ، وترى اختلاف المعنى في حياتك على اختلاف ِ الزمانِ ، ليس فيه تناقضٌ ولا تضاد ، هو كتاب الله تعالى المُنزَل وكلامه المُرسل ..
إنّ أية من أيات الله سبحانه وتعالى تحتاج من العلماء منذ 1500 عام ٍ تقريبًا حتى يومنا هذا من اكتشاف ٍ واجتهاد ، وإخراج معان ٍ وفوائد ، إنه لحق ٌ كلام ٌ عظيم ، وشأن أعظم !
ربما كان هذا الدليل -بالنسبة لي -  مدخلاً لفهم "مداد" ، وجعل أو تصوّر قدرة الله تعالى في كلامه وكتابته وبقاء إمداده بماء البحر "حسب الصورة في الأية " هو الأمر العجيب !
فحين نتخيل أنّ حرفًا واحدًا أخذ من العلماء ما أخذ من أعمارهم ، وأنّ مجلّدات كتبت وكتبت في فهم حرف ! لذلك أمر ٌ عجيب ! .. ولم ينتهو !
لم نتطرق بعد لذكر أننا إن ذكرنا "القراءات العشر" في هذا الأمر ، فهذا سيجعل الباب أوسع من ناحية التخيل واستيعاب القدرة !
فالقراءات العشر كانت لتسهيل القراءة على الناس ، وتنزلت بلسان قريش ومن حولهم ، حين نزل القرآن على سبع أحرف، أي؛ سبعة أوجه ..
ففي كل وجه ٍ نستطيع استنباط معنىً ، وفي كل وجه ٍ نستطيع استنباط حكمة ، حُكمًا شرعيًا .... إلخ
والأجمل والأبدع في كل هذا ، أنّ رغم اختلاف الأوجه في القراءة إلاّ أنها في كل معانيها تعطي تتمة ً للمعنى ، وحكمًا لا يتضارب مع أخيه !
-حقيقة- يحار الفكر في كل ذلك .. في وصف قدرته جلّ في علاه في كتابة نعجز نحن في بلاغتنا ، في علمنا وفهمنا عن إدراكها ، عن معرفة حدودها اللامحدودة ! .. نقف قاصرون َ دون ذلك ! ، ويقف العقل عند قدرته على تخيّل المطلق في ملكوت وفلك ِ كتابه العزيز ؛ القرآن الكريم !
وما يُحيّر أيضًا هو أننا في كل مرّة نقرأ فيها القرآن الكريم ، وحتى حين نمرّ على الآيات نفسها ، تكون المعاني في ذهننا مختلفة ، فمرةً نراه يواسينا في تلك الآية ، ومرة ً يشاركنا همّنا، ومرّة نراه الدليل المُرشِد ، ومرةً نراه الحبيب المطبب .. إنّ أجمل القراءات ما رأيتها وعرفتها حين تشعر أنّ الآية تنزّلت الآن عليكْ وتقرأها أوّل مرّة !

وأختم أفكاري الشائكة المتشعبة في غضون آية ، بل فكرة ، بل كلمة ! ، بقول الفخر الرازي في تفسيره حين قال عن هذه الآية :
ذكر مسائل موجودة في هذه الآية : وهذه نقطة ٌ منها :
" اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَنْوَاعَ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ وَشَرَحَ أَقَاصِيصَ الْأَوَّلِينَ نَبَّهَ عَلَى كَمَالِ حَالِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي وَالْمِدَادُ اسْمٌ لِمَا تُمَدُّ بِهِ الدَّوَاةُ مِنَ الْحِبْرِ وَلِمَا يُمَدُّ بِهِ السِّرَاجُ مِنَ السَّلِيطِ، وَالْمَعْنَى لَوْ كُتِبَتْ كَلِمَاتُ عِلْمِ اللَّهِ وَحِكَمُهُ وَكَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لَهَا وَالْمُرَادُ بِالْبَحْرِ الْجِنْسُ لَنَفِدَ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ الْكَلِمَاتُ، وَتَقْرِيرُ الْكَلَامِ أَنَّ الْبِحَارَ كَيْفَمَا فَرَضَتْ فِي الِاتِّسَاعِ وَالْعَظَمَةِ فَهِيَ مُتَنَاهِيَةٌ وَمَعْلُومَاتُ اللَّهِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَالْمُتَنَاهِي لَا يَفِي الْبَتَّةَ بِغَيْرِ الْمُتَنَاهِي، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَنْفَدَ بِالْيَاءِ لِتُقَدِّمِ الْفِعْلِ عَلَى الْجَمْعِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ كَلِمَاتٍ،
وَرُوِيَ أَنَّ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ قَالَ: فِي كِتَابِكُمْ: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: 269] ثم تقرأون: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 85] فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ "

سبحانك يا الله ! ، ما عبدناكَ حقَّ عبادتكْ !

والله أعلم !