مشهد ٌ أولي ّ يكون قبل أن يذهبو ويخطفو ألبابنا .. فتدق ُّ قلوبنا خوفاً ورجاءْ
أمي أجيبيني .. حبيبتي أجيبيني
ما بك ِ لا تجيبين ؟؟
ابنتي الحبيبة أجيبيني ! .. ما كانت عادتك هكذا أن تتركيني أتساءل ولا تجيبيني !!
ما كنت ِ تسمعين سؤالا ً يخرج مني .. إلا ّ وكنت لاهفة ً للسماع والردّ عليه ..
والآن أنت ِصامتة ً لا تجيبين !!
أبخلت ِ بالجواب ؟ .. أم أنـّك في مكانك ِ ذاك ! .. يمنعك من الردّ والحـِراك !
ربّ اكتب لها الخير َ .. واصرف عنها الشر .. بيدك الخير إنـّك على كل شيء ٍ قدير ..
وهطلت دمعتان من عين الفتاة ! .. وبعدها ما عـُرف َ لها أثر ، سوى بمكان يذهب إليه الناس عندما ينتهون من حياتهم الدنيا للآخرة .. بانتظار ٍ من الله أن يحكم بينهم بالحق ، إنه هو القادر ذو القوّة المتين ..
*******
ربما بكثرة الفراق بالموت الذي نلحظه في هذه الأيام لم يعد للموت الطعم المخيف الذي نظنه أنه سيكون كالوحش المفترس الذي يأتي علينا فلا يترك منـّا قطعة واحدة !
من رحمة الله وعظمته وعدله أن أوجد َ الموت .. ومنه جلّ وتعالى أيضا أن جعل بعد الموت قيامة ً فساعة ً فحساب .. وحينها جحيم أو نعيم ٌ مستقرّ ..
*******
ما علـّمني الموت :
في لحظات الموت الأولى قبل إعلان حالة الفراق ! .. يبدأ الناس المحبين لهذا الإنسان ، ويبدأ الإنسان نفسه بالدعاء ، وأشهر دعاء يُـقال : اللهم اجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت َ راحة ً لي من كل شر
ففرحت لمن يموت بعد هذا الدعاء ؛ لأني علمت أن ّ أي لحظة بعد تلك اللحظة ستكون لحظة شر له .. فوقاه الله إيـّـاها ..
فـ له الحمد وله الشكر
تأتي لحظة الموت .. فيـُنزل الله السكينة والطمأنينة على أهل الميـّـت .. ويعجب الناس لصبرهم وحالهم بالمـُصاب الجلل .. كيف لا ؟ وقد بشــّرهم الله رغم مـُصابهم بابتسامة ٍ تعلو وجه من فارقهم وأحبوه ، وجمال ُ وجه ٍ لم يكونا له يوماً في الدنيا
فـ له الحمد ُ وله ُ الشكر
في أيام العزاء يأتي المعزون وترفع القلوب بطهرها وإحساسها العميق بالخوف من لحظة ٍ تكون لهم ذات يوم ! .. فيأتي الناس ينعونهم .. فيحسّ الإنسان بأخيه وإن لم يكن قد أحسن العمل - إنسانيا ً- على الأقل
فـ له الحمد ُ وله الشكر
ومن نعمة الله علينا أنــّـه جعل أيام العزاء ثلاثا ً .. رغم أن ّ العمر كله لن يكون كافيا ً كي ينسى الإنسان من أحب وشارك معه لحظات حياته جميلها ومرّها .. في ثلاث ٍ ! ..
لكن يعلمنا الله بذلك أن ّ هذا الإنسان المتوفى قد انتهى أجله وعمله بذلك ! .. وأنـّـه قد انتهت رسالته بذلك أيضا .. فعلينا أن نعود نحن لحياتنا ونعمـّـر فيها ونعيد بناءها بهمة ٍ جديدة منطلقة ٍ للحياة .. في بالنا -دائماً- تلك اللحظة التي فصلتنا عمـّن نحب بأنها قد تكون في لحظة ٍ قريبة ليست ببعيدة ٍ لنا ..
فـ له الحمد وله الشكر
حين ننظر لقبل الوفاة وبعدها .. وأيام ذلك وبعده .. وكيف كانت علاقتنا بمن وافتهم المنيـّـة .. وكيف حالنا أصبح بعدهم ، وكيف أن ّ الله قد جهزّ أنفسهم وأعدّها ليوم ٍ قد تفارق فيه من أحبـّـت .. وأنــّها رغم ذلك أودع الله بها الاطمئنان وهيـّـأ له الجو وكل شيء مناسب لها تتلقى به الخبر عند الصدمة الأولى ! ..
وكيف أن ّ الله عز ّ وجل يـُراعي المؤمنين فـُيهيء ُ لكل إنسان حسب إيمانه ويقينه سبيل تلقي الصدمة ِ الأولى ..
فـ له الحمد ُ وله الشكر
ما كان لي أن أفرح قبل بخبر الموت أبدا ً لمن أحب .. وخاصة أنـّـه سبيل الفراق الأول ، الذي نتمنى أن نلتقي بهم في الجنة بإذن الله ..
سوى أن ّ الله أرانا إيـّـاهم بفرح ٍ وغبطة لم نشاهدها عليهم في الدنيا .. ففرحنا لأنهم فرحين
وأن ّ الله أنالهم ما كانو يطمحون إليه في الدنيا .. ففرحنا بنجاح مشروعهم .. وربحهم البيع الذي بايعوه لله عزّ وجل
أخبرني الله أن ّ في الدنيا الفراق حائل بموت ٍ أو بغيره .. ففرحت للموت لأنـّه وعدني باللقاء الذي لا أعرف أتجمعني الدنيا بمن أحب أم لا ؟
فـ له الحمد وله الشكر
الله يـُساعد عبده على الموت والتخلص من الذنوب حتى وهو في آخر لحظات حياته ، حيث يقول تعالى :
مَّا يَفْعَلُ اللَّـهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّـهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ﴿النساء: ١٤٧﴾
وكما قال عليه السلام في الحديث القدسيّ : (( وعزتي وجلالي ، لا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحب أن أرحمه، إلا ابتليته بكل سيئة كان عملها سقماً في جسده، أو إقتاراً في رزقه، أو مصيبة في ماله أو ولده ، حتى أبلغ منه مثل الذر، فإذا بقي عليه شيء شددت عليه سكرات الموت، حتى يلقاني كيوم ولدته أمه ))
فهل نحزن حينها على ضر ٍّ مسـّهم وقد أرانا وأخبرنا الله أنـّـها خير ٌ لهم ؟ ورغم ألامهم فلم يكونو ليصلو لتلك الدرجة لولا الألم .. والجنـّـة تحتاج منا الكثير
فـ له الحمد وله الشكر
قـَـدَرُ الله واقع ٌ أردنا ذلك أم لا ! ، فدعونا نـُري الله من أمرنا خيرا ً ويـُسرا ً .. لقوله تعالى :
( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ﴿آل عمران: ١٤٥﴾)
فـ له الحمد وله الشكر
أحببت الله وآمنت به ، وعلمت أن ّ كل ما يصنعه في هذه الدنيا من أقدار وزّعها بين الناس هي كمال الخير والفوز للإنسان ، لكن تحتاج منا إلى كثير من الإيمان والصبر والرضا بما أنزله الله تعالى بنا ..
ونذكر الحديث المشهور الذي نعرفه ونردده كثيرا ً :
كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما قال يا غلام ، إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، (رفعت الأقلام وجفت الصحف)
فـ لك الحمد يا رب والشكر كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ..
*********
تساؤلات في الموت !
رغم كل الفرح الذي يرتادنا عليهم لخاتمتهم الحسنة .. إلا ّ أننا نبكي
ورغم الطمأنينة التي يحفنا الله بها .. إلا ّ أننا نحزن ونبكي
وأتساءل !
- هل يا ترى بكاؤنا لأننا فارقناهم ؟
فأقول : لم َ نبكي؟ وقد ذهبو إلى أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين .. من لا يـُضام عنده أحد
- هل يا تـرى بكاؤنا لأننا سنعيش حياتنا من دونهم ؟
فأقول : نحن من تعلقنا " زيادة" بمن يموت .. فلو تعلقنا بالحي الذي لا يموت لما تأسفنا وحزنا كل هذا الحزن ! ..
ولكن ّ الإنسان يعزّ عليه أخيه الإنسان .. فكيف بمن كان من لحمه ودمه ؟؟
- وهل يا ترى بعد بـُشرانا بهم نحزن أيضا ؟؟
فأقول : ربما حزننا لأننا سنعيش حياة ً جديدة نعتاد فيها أن نكون منفردين بأنفسنا .. فهم كان لهم دافع كبير في حياتنا .. بأن يقووا عزائمنا ..
ويصلحو من حالنا .. وكمائن أسرارنا .. وفرحنا وحزننا وفكّ ضيقنا وعسرنا .. ولكنـّـهم بالمقابل أعطونا الكثير في حياتهم وتواجدهم معنا ..
فحين فارقناهم كان لدينا مخزون ٌ كبير ٌ منه ، نوزّعه على الكثيرين ولا ينضب !
ولكن حين حالهم المبشر بعد الموت أقول : إن كان هناك ما يـُرثى فأنت ِ يا نفسي التي أرثيك ِ ..
*****************
الموت حلم ٌ لا يـُصدق .. وقلب لا يتحمله ! .. عقل لا يستوعبه ! .. ليل طويل نهاره يطول ليظهر !
أرواحنا وأنفسنا تصدّق قدر الله الذي لطالما آمنت به .. لكن ّ عقولنا يصعب عليها تصديق الأمور " كالطفل الصغير" يصعب عليه أن يتخيل ويفهم مسألة ً علمية أكبر من سنـّه ..
ما بعد الضيق والهم والحزن ؟؟
الحياة توقفت لدقائق عند فقدهم ! .. وانقطعنا بحزننا عن الكثير .. ولن نندم على ذلك فهم أعزاء على قلوبنا .. إننا قد نفقد جهاز هاتفنا أو ورقة ٍ كتبنا عليها شيئا ذات يوم .. وأتلف لسبب ما فنحزن عليه ! .. فكيف بإنسان من لحمنا ودمنا وشاركنا أفراحنا وأحزاننا وكان عونا ً لنا ؟؟
علينا أن نوقن .. ونزيد يقيننا بذلك ، أن ّ الحياة الدنيا دار ٌ سنمر ُ فيها ونرتحل .. شئنا أم أبينا .. طال بنا العمر أم قـَـصـُر .. راحلون راحلون راحلون ، عن هذه الدنيا راحلون !
فلنتصادق معها ونتفق على خيار نسعد بها .. ونكون أصدقاء .. فلا نضرّها ولا تضرّنا .. ونبنيها ونعمّرها بما يرضي ربنا .. ويكون المولى عز ّ وجل حينها معينا ً ونصيرا .. ومن غيره لذلك ؟؟
الحزن لا يغيـّر الأقدار ولا يُعيد شيئا ً مضى وفات ! .. ولو كان ذلك حقا ً .. لكنت أوّل من بكى وأذهب عينيه لذلك ! .. لكن ّ أقدار الله هي الخير في كل شيء .. فلم يعرفنا أحد ٌ كـ الله عزّ وجل ، ولن يحبنا أحد كـ الله عز ّ وجل ، ولن يُدير أمور حياتنا كـ الله عز ّ وجل .. ومن خلق الأنفس هو من سيتولاّها بمحياها ومماتها ..
وفي ختام رسالتي لكم بعد تجربة ٍ مررت بها شخصيا ً .. ومرّ بها الكثيرون من قبلي ومن بعدي
أوصل لأبي بعض الرسائل التي أعلم أنـّها قد وصلته قبل أن تصلكم ، لكن أحبها أن تكون مكتوبة ..
*******
إنها أبي مما علمتني في رحيلك :
- والدي علـّمني أن البكاء لا ينفع في شيء ٍ أبدا ، فلو كان يُعيد ُ شيئا ً لبيكنا أبدا ً .. وعند رحيله لم تبك ِ عيوني مطلقا ً .. إلا ّ أن ّ قلبي بكى دما ً ! ..
- أننا يا أبي نسعى كثيراً في تحقيق أمورنا في هذه الحياة .. ولكن ّ الله لا يكتب لنا نصيبا ً فيها في الدنيا .. ولأننا أخلصنا نيتنا لله عزّ وجل وسعينا بها ، فإن ّ الله يعطيها لنا ويخبرنا بها رغم وفاتنا وبعدنا عن الدنيا .. وبوفاتك يا أبي تحقق كل ما حلمت به في حياتك .. فـ الله هو من تكفـّـل بها من غير أن ندري أو يخطر في بالنا ذلك !!
- في الموت والفـِراق هناك أمل ٌ باللقاء .. فأن لم يكن في الأرض ، فأمل ٌ بالسماء
- صحيح ٌ أن ّ القلب يبقى معلـّـقا ً في أمور ٍ في ماضيه .. لكن ّ العقل َ يبقى سائرا ً في الحياة ..
- صحيح ٌ أن ّ الموت يأخذ كل ّ الناس ، لكن ّ الذكر الحسن أبقى ما يـُبقيهم
- هناك الكثير يا أبي .. أحتفظ به لنفسي .. وسأخبرك به لاحقاً ..
تلك َ أقدار ُ الله لدى الجميع ! .. لا يهرب منها أحد .. وإلا ّ أن تصيب كلّ أحد .. سواه الواحد الأحد